الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
النهي عن صوم يوم الجمعة محمول على صومه مفردا ن كما تبين في موضع آخر ولعل سببه: أن لا يخص يوم بعينه بعبادة معينة لما في التخصيص من التشبه باليهود في تخصيص السبت بالتجرد عن الأعمال الدنيوية إلا أن هذا ضعيف لأن اليهود لا يخصون يوم السبت بخصوص الصوم فلا يقوى التشبه بهم بل ترك الأعمال الدنيوية أقرب إلى التشبه بهم ولم يرد به النهي وإنما تؤخذ كراهته من قاعدة الكراهة التشبه بالكفار ومن قال: بأنه يكره التخصيص ليوم معين فقد أبطل تخصيص يوم الجمعة ولعله ينضم إلى ما ذكرناه من المعنى: أن اليوم لما كان فضيلا جدا على الأيام وهو يوم عيد هذه الملة كان الداعي إلى صومه قويا فنهى عنه حماية أن يتتابع الناس في صومه فيحصل فيه التشبه أو محذور إلحاق العوام إياه بالواجبات إذا أديم وتتابع الناس في صومه فيلحقون بالشرع ما ليس منه وأجاز مالك صومه مفردا وقال بعضهم: لم يبلغه الحديث أو لعله لم يبلغه.5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده».حديث أبي هريرة يبين المطلق في الرواية الأولى ويوضح أن المراد إفراده بالصوم ويظهر منه: أن العلة هي الإفراد بالصوم ويبقى النظر: هل ذلك مخصوص بهذا اليوم أم نعديه إلى قصد غيره بالتخصيص بالصوم؟ وقد أشرنا إلى الفرق بين تخصيصه وتخصيص غيره بأن الداعي هاهنا إلى تخصيصه عام بالنسبة إلى كل الأمة فالداعي إلى حماية الذريعة فيه أقوى من غيره فمن هذا الوجه: يمكن تخصيص النهي به ولو قدرنا أن العلة تقتضي عموم النهي عن التخصيص بصوم غيره ووردت دلائل تقتضي تخصيص البعض باستحباب صومه بعينه: لكانت مقدمة على العموم المستنبط من عموم العلة لجواز أن تكون العلة قد اعتبر فيها وصف من أوصاف محل النهي والدليل الدال على الاستحباب لم يتطرق إليه احتمال الرفع فلا يعارضه ما يحتمل فيه التخصيص ببعض أوصاف المحال.6- عن أبي عبيد مولى ابن أزهر- واسمه: سعد بن عبيد- قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر: تأكلون فيه من نسككم».مدلوله: المنع من صوم يومي العيد ويقتضي ذلك عدم صحة صومهما بوجه من الوجوه وعند الحنفية في الصحة مخالفة في بعض الوجوه فقالوا: إذا نذر صوم يوم العيد وأيام التشريق: صح نذره وخرج عن العهدة بصوم ذلك وطريقهم فيه: أن الصوم له جهة عموم وجهة خصوص فهو من حيث إنه صوم: يقع الامتثال به ومن حيث إنه صوم عيد: يتعلق به النهي والخروج عن العهدة: يحصل بالجهة الأولى أعني كونه صوما والمختار عند غيرهم: خلاف ذلك وبطلان النذر وعدم صحة الصوم: والذي يدعى من الجهتين بينهما تلازم هاهنا ولا انفكاك فيتمكن النهي من هذا الصوم فلا يصح أن يكون قربة فلا يصح نذره.بيانه: أن النهي ورد عن صوم يوم العيد والناذر له معلق لنذره بما تعلق به النهي وهذا بخلاف بالصلاة في الدار المغصوبة عند من يقول بصحتها فإنه لم يحصل التلازم بين جهة العموم أعني كونها صلاة وبين جهة الخصوص أعني كونها حصولا في مكان مغصوب وأعني بعدم التلازم ههنا: عدمه في الشريعة فإن الشره وجه الأمر إلى مطلق الصلاة والنهي إلى مطلق الغصب وتلازمهما واجتماعهما إنما هو في فعل المكلف لا في الشريعة فلم يتعلق النهي شرعا بهذا الخصوص بخلاف صوم يوم العيد فإن النهي ورد عن خصوصه فتلازمت جهة العموم وجهة الخصوص في الشريعة وتعلق النهي بعين ما وقع في النذر فلا يكون قربة.وتكلم أهل الأصول في قاعدة تقتضي النظر في هذه المسألة وهو أن النهي عند الأكثرين لا يدل على صحة المنهي عنه وقد نقلوا عن محمد بن الحسن: أنه يدل على صحة المنهي عنه.لأن النهي لابد فيه من إمكان المنهي عنه: إذ لا يقال للأعمى: لا تبصر: وللإنسان لا تطر فإذا هذا المنهي عنه- أعني صوم يوم العيد- ممكن وإذا أمكن ثبتت الصحة وهذا ضعيف لأن الصحة إنما تعتمد التصور والإمكان العقلي أو العادي والنهي يمنع التصور الشرعي فلا يتعارضان وكان محمد بن الحسن يصرف اللفظ في المنهي عنه إلى المعنى الشرعي.وفي الحديث دلالة على أن الخطيب يستحب له أن يذكر في خطبته ما يتعلق بوقته من الأحكام كذكر النهي عن صوم يوم العيد في خطبة العيد فإن الحاجة تمس إلى مثل ذلك وفيه إشعار وتلويح بأن علة الإفطار في يوم الضحى: الأكل من النسك.وفيه دليل على جواز الأكل من النسك وقد فرق الفقهاء بين الهدي والنسك وأجاز الأكل إلا من جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين وهدي التطوع إذا عطب قبل محله وجعل الهدي كجزاء الصيد وما وجب لنقص في حج أو عمرة.7- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: الفطر والنحر وعن الصماء وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد وعن الصلاة بعد الصبح والعصر» أخرجه مسلم بتمامه وأخرج البخاري الصوم فقط.أما صوم يوم العيد فقد تقدم وأما اشتمال الصماء فقال عبد الغافر الفارسي في مجمعه تفسير الفقهاء: أنه يشتمل بثوب ويرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فالنهي عنه لأنه يؤدي إلى التكشف وظهور العورة قال: وهذا التفسير لا يشعر به لفظ الصماء وقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب فيستر به جميع جسده بحيث لا يترك فرجة يخرج منها يده واللفظ مطابق لهذا المعنى.والنهي عنه: يحتمل وجهين:أحدهما: أنه يخاف معه أن يدفع إلى حالة سادة لمتنفسه فيهلك عما تحته إذا لم تكن فيه فرجة والآخر: أنه إذا تخلل به فلا يتمكن من الاحتراس والاحتراز إن أصابه شيء أو نابه مؤذ ولا يمكنه أن يتقيه بيديه لإدخاله إياهما تحت الثوب الذي اشتمل به والله أعلم.وقد مر الكلام في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر.وأما الاحتباء في الثوب الواحد: فيخشى منه تكشف العورة.8- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا».قوله: «في سبيل الله» العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين- أعني عبادة الصوم والجهاد- ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه والأول: أقرب إلى العرف وقد ورد في بعض الأحاديث: جعل الحج أو سفره في سبيل الله وهو استعمال وضعي.والخريف: يعبر به عن السنة فمعنى سبعين خريفا سبعون سنة وإنما عبر بالخريف عن السنة: من جهة أن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد فإذا مر الخريف فقد مضت السنة كلها وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام كان سائغا بهذا المعنى إذ ليس في السنة إلا ربيع واحد وصيف واحد قال بعضهم: ولكن الخريف أولى بذلك لأنه الفضل الذي يحصل به نهاية ما بدأ في سائر الفصول لأن الأزهار تبدو في الربيع والثمار تتشكل صورها في الصيف وفيه يبدو نضجها ووقت الانتفاع بها أكلا وتحصيلا وادخارا في الخريف وهو المقصود منها فكان فصل الخريف أولى بأن يعبر به عن السنة من غيره والله أعلم.
|